فصل: (فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.(فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ):

قَالَ: (وَيُقَسِّمُ الْإِمَامُ الْغَنِيمَةَ فَيُخْرِجُ خُمُسَهَا) لِقولهِ تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} اسْتَثْنَى الْخُمُسَ (وَيُقَسِّمُ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَسَّمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ (ثُمَّ لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (وَقَالَا: لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ) وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» وَلِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْغِنَاءِ وَغِنَاؤُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْثَالِ الرَّاجِلِ؛ لِأَنَّهُ لِلْكَرِّ وَالْفَرِّ وَالثَّبَاتِ، وَالرَّاجِلُ لِلثَّبَاتِ لَا غَيْرُ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَالرَّاجِلَ سَهْمًا» فَتَعَارَضَ فِعْلَاهُ، فَيُرْجَعُ إلَى قولهِ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ» كَيْفَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَسَّمَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ» وَإِذَا تَعَارَضَتْ رِوَايَتَاهُ تُرَجَّحَ رِوَايَةُ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ الْكَرَّ وَالْفَرَّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ غِنَاؤُهُ مِثْلَيْ غِنَاءِ الرَّاجِلِ فَيَفْضُلُ عَلَيْهِ بِسَهْمٍ وَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ مِقْدَارِ الزِّيَادَةِ لِتَعَذُّرِ مَعْرِفَتِهِ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ، وَلِلْفَارِسِ سَبَبَانِ النَّفْسُ وَالْفَرَسُ، وَلِلرَّاجِلِ سَبَبٌ وَاحِدٌ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُهُ عَلَى ضَعْفِهِ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ) قِيلَ لَمَّا بَيَّنَ أَحْكَامَ الْغَنِيمَةِ شَرَعَ يُبَيِّنُ قِسْمَتَهَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مِنْ أَحْكَامِ الْغَنِيمَةِ وُجُوبَ قِسْمَتِهَا، وَإِنَّمَا أَفْرَدَهُ بِفَصْلٍ عَلَى حِدَتِهِ لِكَثْرَةِ مَبَاحِثِهِ وَشُعَبِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ.
وَالْقِسْمَةُ جَعْلُ النَّصِيبِ الشَّائِعِ مَحَلًّا مُعَيَّنًا.
قولهُ: (وَيَقْسِمُ الْإِمَامُ الْغَنِيمَةَ فَيُخْرِجُ خُمُسَهَا) أَيْ عَنْ الْقِسْمَةِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ (وَيَقْسِمُ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ) هَذَا قول الْقُدُورِيِّ.
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ لِقولهِ تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} اسْتَثْنَى الْخُمُسَ أَيْ اللَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ الْخُمُسَ مِنْ أَنْ يَثْبُتَ حَقُّ الْغَانِمِينَ فِيهِ فَكَانَ اسْتِثْنَاءَ مَعْنًى لِلْإِخْرَاجِ، وَهُوَ مِنْ اسْتَثْنَيْت الشَّيْءَ: أَيْ زَوَيْته لِنَفْسِي، فَهَذَا يَرْجِعُ إلَى قول اللَّهِ تَعَالَى لَا قِسْمَةِ الْإِمَامِ بَلْ الْخُمُسُ دَاخِلٌ فِي قِسْمَتِهِ؛ إذْ حَاصِلُ بَيَانِ قِسْمَتِهَا هُوَ أَنْ يُعْطِيَ خُمُسَهَا لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَيُعْطِيَ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ لِلْغَانِمِينَ (فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَزَفَرٍ (لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَعِنْدَهُمَا) وَهُوَ قول مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ (لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ) لَهُمْ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا».
لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَأَخْرَجَهُ السِّتَّةُ إلَّا النَّسَائِيّ.
وَفِي مُسْلِمٍ عَنْه: «قَسَمَ فِي النَّقْلِ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» وَفِي رِوَايَةٍ بِإِسْقَاطِ لَفْظِ النَّقْلِ.
وَفِي رِوَايَةٍ «أَسْهَمَ لِلرَّجُلِ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لَهُ وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ» وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا تُبْطِلُ قول مَنْ أَوَّلَ مِنْ الشُّرَّاحِ كَوْنَ الْمُرَادُ مِنْ الرِّجَالِ الرَّجَّالَةَ وَمِنْ الْخَيْلِ الْفُرْسَانَ، بَلْ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ الْقَائِلَةِ «قَسَمَ خَيْبَرَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَكَانَتْ الرَّجَّالَةُ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَالْخَيْلُ مِائَتَيْنِ» وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ (وَلِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْغَنَاءِ) وَهُوَ بِالْمَدَدِ وَالْفَتْحِ الْإِجْزَاءُ وَالْكِفَايَةُ (وَغَنَاءُ الْفَارِسِ الْكَرُّ) أَيْ الْحَمَلَةُ عَلَى الْأَعْدَاءِ (وَالْفَرُّ) الْكَائِنُ لِلْكَرَّةِ أَوْ لِلنَّجَاةِ فِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ الْفِرَارُ، وَهُوَ مَا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ مَقْتُولٌ إنْ لَمْ يَفِرَّ كَيْ لَا يَرْتَكِبَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} (وَالثَّبَاتُ وَلَيْسَ لِلرَّاجِلِ إلَّا الثَّبَاتُ) فَأَغْنَى فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ، وَالرَّاجِلُ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا.
وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَالرَّاجِلَ سَهْمًا» وَهُوَ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بَلْ الَّذِي رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ غَزْوَانَ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَسْهَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا».
وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ فِي حَدِيثِ الْخُمُسِ بِرِوَايَةِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، لَكِنْ فِي هَذَا الْبَابِ أَحَادِيثُ: مِنْهَا مَا فِي أَبِي دَاوُد عَنْ مُجَمِّعِ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ مُجَمِّعِ بْنِ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ سَمِعْت أَبِي يَذْكُرُ عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ عَمِّهِ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ أَحَدَ الْقُرَّاءِ الَّذِينَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ، قَالَ: «شَهِدْنَا الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا عَنْهَا إذَا النَّاسُ يَهُزُّونَ الْأَبَاعِرَ، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: مَا لِلنَّاسِ؟ قَالُوا: أُوحِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجْنَا مَعَ النَّاسِ نُوجِفُ، فَوَجَدْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفًا عَلَى رَاحِلَتِهِ عِنْدَ كُرَاعِ الْغَمِيمِ فَلَمَّا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ قَرَأَ عَلَيْهِمْ {إنَّا فَتَحْنَا لَك فَتْحًا مُبِينًا} فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ نَعَمْ، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إنَّهُ لَفَتْحٌ، فَقُسِّمَتْ خَيْبَرُ عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَقَسَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَكَانَ الْجَيْشُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فِيهِمْ ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ، فَأَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَأَعْطَى الرَّاجِلَ سَهْمًا» قَالَ أَبُو دَاوُد: وَهَذَا وَهَم: «وَإِنَّمَا كَانُوا مِائَتَيْ فَارِسٍ فَأَعْطَى الْفَرَسَ سَهْمَيْنِ وَأَعْطَى صَاحِبَهُ سَهْمًا» وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّمَا قَالَ: «فَأَعْطَى الْفَرَسَ سَهْمَيْنِ وَأَعْطَى الرَّجُلَ»: يَعْنِي صَاحِبَهُ، فَغَلَطَ الرَّاوِي عَنْهُ.
وَأَعَلَّهُ ابْنُ الْقَطَّانِ بِالْجَهْلِ بِحَالِ يَعْقُوبَ.
وَأَمَّا ابْنُهُ مُجَمِّعٌ الرَّاوِي عَنْهُ فَثِقَةٌ.
وَمِنْهَا مَا فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو «أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى فَرَسٍ يُقَالُ لَهُ سُبْحَةٌ، فَأَسْهَمَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَلَهُ سَهْمٌ».
وَفِي سَنَدِهِ الْوَاقِدِيُّ.
وَأَخْرَجَ الْوَاقِدِيُّ أَيْضًا فِي الْمَغَازِي عَنْ جَعْفَرِ بْنِ خَارِجَةَ قَالَ: قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ: «شَهِدْت بَنِي قُرَيْظَةَ فَارِسًا فَضَرَبَ لِي بِسَهْمٍ وَلِفَرَسِي بِسَهْمٍ» وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السِّرِّيِّ، حَدَّثَنَا الْمُنْذِرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَانِئٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالت: «أَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَايَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَأَخْرَجَ الْخُمُسَ مِنْهَا ثُمَّ قَسَّمَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَالرَّاجِلَ سَهْمًا».
وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي عَارَضَ بِهِ الْمُصَنِّفَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنِّفِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ وَابْنُ نُمَيْرٍ قَالَا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا».اهـ.
وَمِنْ طَرِيقَهِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ: هَذَا عِنْدِي وَهَمٌ مِنْ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، لِأَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ بِشْرٍ وَغَيْرَهُمَا رَوَوْهُ عَنْ ابْنِ نُمَيْرٍ خِلَافَ هَذَا، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ كَرَامَةَ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ خِلَافَ هَذَا: يَعْنِي أَنَّهُ أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، تَمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أَنَّهُ أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» وَلَا شَكَّ أَنَّ نُعَيْمًا ثِقَةٌ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ مِنْ أَثْبَتِ النَّاسِ.
وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسْهِمُ لِلْخَيْلِ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» قَالَ: وَتَابَعَهُ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ وَخَالِدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ.
وَرَوَاهُ الْقَعْنَبِيُّ عَنْ الْعُمَرِيِّ بِالشَّكِّ فِي الْفَارِسِ أَوْ الْفَرَسِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُنْهَالٍ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَّمَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» وَخَالَفَهُ النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ حَمَّادٍ.
وَمِمَّنْ رَوَى حَدِيثَ عُبَيْدِ اللَّهِ مُتَعَارِضًا الْكَرْخِيُّ، لَكِنَّ رِوَايَةَ السَّهْمَيْنِ عَنْهُ أَثْبَتُ.
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ الْمُؤْتَلَفُ وَالْمُخْتَلَفُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي رَوِيَّةَ قَالَا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْر عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَمِينٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَسِّمُ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا».
وَإِذَا ثَبَتَ التَّعَارُضُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بَلْ فِي فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُطْلَقًا نَظَرًا إلَى تَعَارُضِ رِوَايَةِ غَيْرِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا تَرَجَّحَ النَّفْيُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ عَدَمُ الْوُجُوبِ، وَبِالْمَعْنَى وَهُوَ (أَنَّ الْكَرَّ وَالْفَرَّ جِنْسٌ وَاحِدٌ) وَالثَّبَاتُ جِنْسٌ فَهُمَا اثْنَانِ لِلْفَارِسِ وَلِلرَّاجِلِ أَحَدُهُمَا فَلَهُ ضِعْفُ مَالِهِ، وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ إلَّا بِالزِّيَادَةِ فِي الْغَنَاءِ ضَرُورَةً وَإِنْ تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ الزِّيَادَةِ فِي الْقِتَالِ حَقِيقَةً، لِأَنَّ كَمْ مِنْ رَاجِلٍ أَنْفَعَ فِيهِ مِنْ رَاجِلٍ وَفَارِسٍ مِنْ فَارِسٍ، لَا يُسْتَنْكَرُ زِيَادَةُ إغْنَاءِ رَاجِلٍ عَنْ فَارِسٍ، فَإِنَّمَا (يُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ، وَلِلْفَارِسِ سَبَبَانِ) فِي الْغَنَاءِ بِنَفْسِهِ وَفَرَسِهِ (وَلِلرَّاجِلِ نَفْسُهُ فَقَطْ) فَكَانَ عَلَى النِّصْفِ.
وَقول الْمُصَنِّفِ: (وَإِذَا تَعَارَضَتْ رِوَايَتَاهُ تُرَجَّحُ رِوَايَةُ غَيْرِهِ).
يُرِيدُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَعَلِمْت مَا فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمُعَارَضَةُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّرْكِ فَرْعُ الْمُسَاوَاةِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْبُخَارِيِّ فَهُوَ أَصَحُّ.
قُلْنَا: قَدَّمْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ كَوْنَ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ أَصَحَّ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ فِي غَيْرِهِ مَعَ فَرْضِ أَنَّ رِجَالَهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، أَوْ رِجَالٌ رَوَى عَنْهُمْ الْبُخَارِيُّ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّا نَقول بِهِ، مَعَ أَنَّ الْجَمْعَ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْوَى مِنْ الْآخَرِ أَوْلَى مِنْ إبْطَالِ أَحَدِهِمَا، وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا يَحْمِلُ رِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ عَلَى التَّنْفِيلِ فَكَانَ إعْمَالُهُمَا أَوْلَى مِنْ إهْمَالِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ كَوْنِهِ سَنَدًا صَحِيحًا عَلَى مَا ذَكَرْت مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَيُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى وَذَكَرْنَا مَنْ تَابَعَهُ.
وَأَمَّا قولهُ تَعَارَضَ فِعْلَاهُ فَيَرْجِعُ إلَى قولهِ: يَعْنِي قولهُ: لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَخَطِئَ مَنْ عَزَاهُ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، ثُمَّ هُوَ وِزَانُ مَا تَقَدَّمَ لَهُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ مِنْ قولهِ فَتَعَارَضَتْ رِوَايَتَا فِعْلِهِ وَبَقِيَ التَّمَسُّكُ بِقولهِ وَعُلِمَ مَا تَقَدَّمَ هُنَاكَ مِنْ أَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ الْمَصِيرَ أَوَّلًا إلَى الْفِعْلِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ التَّمَسُّكُ بِهِ حِينَئِذٍ يُصَارُ إلَى الْقول وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
هَذَا، وَاعْلَمْ أَنَّ مَخَارِجَ حَدِيثِ الثَّلَاثَةِ أَكْثَرُ، فَإِنَّهُ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِيهِ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رُهْمٍ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَادِ، وَأَخْرَجَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَذَا الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ عَنْ الزُّبَيْرِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ.
وَهِيَ مَعَ أَنَّهَا لَمْ تَسْلَمْ مِنْ الْمَقَالِ مِنْهَا مَا لَا يُنَافِي قول أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّك قَدْ عَلِمْت أَنَّ رِوَايَةَ الثَّلَاثَةِ مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّنْفِيلِ فِي تِلْكَ الْوَقْعَةِ.
وَنَصُّ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي عَمْرَةَ: «أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَمَعَنَا فَرَسٌ» لَا يُنَافِيهِ، وَكَذَا حَدِيثُ أَحْمَدَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْطَى الزُّبَيْرَ سَهْمًا وَفَرَسَهُ سَهْمَيْنِ» وَكَذَا حَدِيثُ جَابِرٍ فَإِنَّهُ قَالَ: «شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُزَاةً فَأَعْطَى الْفَارِسَ مِنَّا ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَأَعْطَى الرَّاجِلَ سَهْمًا» بَلْ هَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَيْسَ أَمْرُهُ الْمُسْتَمِرُّ وَإِلَّا لَقَالَ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْ قَضَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَنَحْوَهُ، فَلَمَّا قَالَ غُزَاةً وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ شَهِدَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَوَاتٍ ثُمَّ خَصَّ هَذَا الْفِعْلِ بِغُزَاةٍ مِنْهَا كَانَ ظَاهِرًا فِي أَنَّ غَيْرَهَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.
نَعَمْ فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ لِحَدِيثِ الزُّبَيْرِ أَعْطَانِي يَوْمَ بَدْرٍ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أُخْرَى عَنْهُ يَوْمَ خَيْبَرَ وَلَا تَنَافِيَ، إذَا جَازَ كَوْنُهُ قَسَّمَ لَهُ ذَلِكَ فِيهِمَا.
وَمَا فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ «أَنَّهُ شَهِدَ حُنَيْنًا فَأَسْهَمَ لِفَرَسِهِ سَهْمَيْنِ وَلَهُ سَهْمًا».
وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي غَزْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ لِلْفَارِسِ وَفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، لَهُ سَهْمٌ وَلِفَرَسِهِ سَهْمَانِ» لَا يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَمِرٌّ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَقَدْ بَقِيَ حَدِيثُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ عَنْ عَائِشَةَ، وَتَقَدَّمَ مَا يُعَارِضُ حَدِيثَ بَنِي قُرَيْظَةَ هَذَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي كَبْشٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «إنِّي جَعَلَتْ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلْفَارِسِ سَهْمًا» فَمَنْ نَقَصَهُمَا نَقَصَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ الْقَيْسِيِّ أَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى تَضْعِيفِهِ وَتَوْهِينِهِ.

متن الهداية:
(وَلَا يُسْهِمُ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُسْهِمُ لِفَرَسَيْنِ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْهَمَ لِفَرَسَيْنِ» وَلِأَنَّ الْوَاحِدَ قَدْ يَعْيَا فَيَحْتَاجُ إلَى الْآخَرِ، وَلَهُمَا «أَنَّ الْبَرَاءَ بْنَ أَوْسٍ قَادَ فَرَسَيْنِ فَلَمْ يُسْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ» وَلِأَنَّ الْقِتَالَ لَا يَتَحَقَّقُ بِفَرَسَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَلَا يَكُونُ السَّبَبُ الظَّاهِرُ مُفْضِيًا إلَى الْقِتَالِ عَلَيْهِمَا فَيُسْهِمُ لِوَاحِدٍ، وَلِهَذَا لَا يُسْهِمُ لِثَلَاثَةِ أَفْرَاسٍ، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْفِيلِ كَمَا أَعْطَى سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ سَهْمَيْنِ وَهُوَ رَاجِلٌ (وَالْبَرَاذِينُ وَالْعَتَاقُ سَوَاءٌ) لِأَنَّ الْإِرْهَابَ مُضَافٌ إلَى جِنْسِ الْخَيْلِ فِي الْكِتَابِ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وَاسْمُ الْخَيْلِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْبَرَاذِينِ وَالْعِرَابِ وَالْهَجِينِ وَالْمَقْرِفِ إطْلَاقًا وَاحِدًا، وَلِأَنَّ الْعَرَبِيَّ إنْ كَانَ فِي الطَّلَبِ وَالْهَرَبِ أَقْوَى فَالْبِرْذَوْنُ أَصَبْرُ وَأَلْيَنُ عَطْفًا، فَفِي كُلِّ وَاحِدِ مِنْهُمَا مَنْفَعَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فَاسْتَوَيَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يُسْهِمُ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ) أَيْ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِفَرَسَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَهَذَا قول مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ) وَهُوَ قول أَحْمَدَ (يُسْهِمُ لِفَرَسَيْنِ) فَيُعْطِي خَمْسَةَ أَسْهُمٍ، سَهْمٌ لَهُ وَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ لِفَرَسَيْهِ.
وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي رِوَايَةِ الْإِمْلَاءِ عَنْهُ.
وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَسْهَمَ لِفَرَسَيْنِ» وَهَذَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ بَشِيرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُحْصَنٍ قَالَ: «أَسْهَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَرَسِي أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ وَلِي سَهْمًا فَأَخَذْت خَمْسَةَ أَسْهُمٍ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.
وَمِنْ حَدِيثِ الزُّبَيْرِ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرْنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى الْأَسْلَمِيُّ.
أَخْبَرَنَا صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مَكْحُول: «أَنَّ الزُّبَيْرَ حَضَرَ خَيْبَرَ بِفَرَسَيْنِ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ»، وَهَذَا مُنْقَطِعٌ، وَقَدْ قَبِلَهُ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ مَكْحُولٍ مُنْقَطِعًا وَقَالَ بِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي دَفْعِهِ: وَهِشَامٌ أَثْبَتُ فِي حَدِيثِ أَبِيهِ، إلَى أَنْ قَالَ: وَأَهْلُ الْمَغَازِي لَمْ يَرْوُوا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «أَسْهَمَ لِفَرَسَيْنِ»، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ يَعْنِي النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَضَرَ خَيْبَرَ بِثَلَاثَةِ أَفْرَاسٍ السَّكْبِ وَالضَّرْبِ وَالْمُرْتَجَزِ، وَلَمْ يَأْخُذْ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ انْتَهَى.
يُرِيدُ بِحَدِيثِ هِشَامٍ مَا تَقَدَّمَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ سَهْمَيْنِ لِفَرَسِي وَسَهْمًا لِي وَسَهْمًا لِأُمِّي مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى».
وَمِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ خَيْبَرَ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ بِأَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لَهُ وَسَهْمٌ لِأُمِّهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ» وَهَذَا أَحْسَنُ إلَّا أَنَّ قولهُ أَهْلُ الْمَغَازِي لَمْ يَرْوُوا أَنَّهُ أَسْهَمَ لِفَرَسَيْنِ لَيْسَ كَذَلِكَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ يَحْيَى عَنْ عِيسَى بْنِ مَعْمَرٍ قَالَ: «كَانَ مَعَ الزُّبَيْرِ يَوْمَ خَيْبَرَ فَرَسَانِ، فَأَسْهَمَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ» وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَادَ فِي خَيْبَرَ ثَلَاثَةَ أَفْرَاسٍ لِزَازٍ وَالضَّرْبِ وَالسَّكْبِ وَقَادَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ أَفْرَاسًا، وَقَادَ خِرَاشُ بْنُ الصِّمَّةِ فَرَسَيْنِ، وَقَادَ الْبَرَاءُ بْنُ أَوْسٍ فَرَسَيْنِ. وَقَادَ أَبُو عَمْرَةَ الْأَنْصَارِيُّ فَرَسَيْنِ، فَأَسْهَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِكُلِّ مَنْ كَانَ لَهُ فَرَسَانِ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ أَرْبَعَةً لِفَرَسَيْهِ وَسَهْمًا لَهُ وَمَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ فَرَسَيْنِ لَمْ يُسْهِمْ لَهُ»، وَيُقَالُ إنَّهُ لَمْ يُسْهِمْ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ.
وَأَثْبَتَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَسْهَمَ لِفَرَسٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يُسْمَعْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْهَمَ لِنَفْسِهِ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ.
إلَى هُنَا كَلَامُ الْوَاقِدِيِّ مَعَ اخْتِصَارِهِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا فَرْجُ بْنُ فُضَالَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الزُّبَيْرِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَنْ أَسْهِمْ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلْفَرَسَيْنِ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ وَلِصَاحِبِهِمَا سَهْمًا فَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، وَمَا كَانَ فَوْقَ الْفَرَسَيْنِ فَهُوَ جَنَائِبُ.
وَقَالَ سَعِيدٌ أَيْضًا: حَدَّثَنَا ابْنُ عَيَّاشٍ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسْهِمُ لِلْخَيْلِ وَكَانَ لَا يُسْهِمُ لِلرَّجُلِ فَوْقَ فَرَسَيْنِ».
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ أَوْسٍ «أَنَّهُ قَادَ فَرَسَيْنِ فَلَمْ يُسْهِمْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ» فَغَرِيبٌ، بَلْ جَاءَ عَنْهُ عَكْسُهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْوَاقِدِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَذَكَرَهُ ابْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ الصَّحَابَةِ قَالَ: رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ قَرِينٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الْمَدَنِيِّ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَعْصَعَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ أَوْسٍ «أَنَّهُ قَادَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسَيْنِ فَضَرَبَ لَهُ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ» إلَّا أَنَّ هَذِهِ غَرَائِبُ.
وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ: أَلَمْ أَسْمَعْ بِالْقَسَمِ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ وَاسْتَمَرَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى طَرِيقَةِ حَمْلِ الزَّائِدِ عَلَى التَّنْفِيلِ.
قَالَ: (كَمَا أَعْطَى سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ سَهْمَيْنِ وَهُوَ رَاجِلٌ) حَدِيثُهُ فِي مُسْلِمٍ قَالَ: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَسَاقَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، إلَى أَنْ قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «خَيْرُ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ، وَخَيْرُ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ، ثُمَّ أَعْطَانِي سَهْمَيْنِ سَهْمَ الْفَارِسِ وَسَهْمَ الرَّاجِلِ.
فَجَمَعَهُمَا لِي جَمِيعًا»
.
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ قَالَ: وَكَانَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ فِي تِلْكَ الْغُزَاةِ رَاجِلًا فَأَعْطَاهُ مِنْ خُمُسِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا مِنْ سِهْمَانِ الْمُسْلِمِينَ.
وَرَوَاهُ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ وَقَالَ: كَانَ سَلَمَةُ قَدْ اسْتَنْقَذَ لِقَاحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: فَحَدَّثْت بِهِ سُفْيَانَ فَقَالَ: خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الْقَاسِمُ: وَهَذَا عِنْدِي أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى أَنَّهُ أَعْطَاهُ مِنْ سَهْمِهِ وَإِلَّا لَمْ يُسَمَّ نَفْلًا بَلْ هِبَةً.
وَخَبَرُ سَلَمَةَ وَاللِّقَاحِ مُفَصَّلٌ فِي السِّيرَةِ.
قولهُ: (وَالْبَرَاذِينُ) وَهِيَ خَيْلُ الْعَجَمِ وَاحِدُهَا بِرْذَوْنٌ (وَالْعَتَاقُ) جَمْعُ عَتِيقٍ: أَيْ كَرِيمٌ رَاتِعٌ وَهِيَ كِرَامُ الْخَيْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْبَرَاذِينُ وَالْخَيْلُ الْعَرَبِيَّةُ هُمَا (سَوَاءٌ) فِي الْقِسْمِ فَلَا يَفْضُلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَكَذَا لَا يَفْضُلُ الْعَتِيقُ عَلَى الْهَجِينِ وَهُوَ مَا يَكُونُ أَبُوهُ مِنْ الْبَرَاذِينِ وَأُمُّهُ عَرَبِيَّةٌ، وَلَا عَلَى الْمَقْرِفِ وَهُوَ مَا يَكُونُ أَبُوهُ عَرِيبًا وَأُمُّهُ بِرْذَوْنَةً.
قِيلَ إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا لِأَنَّ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ مَنْ يَقول لَا يُسْهِمُ لِلْبَرَاذِينِ وَرَوَوْا فِيهِ حَدِيثًا شَاذًّا.
وَحُجَّتُنَا فِيهِ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّ إطْلَاقَ الْخَيْلِ يَشْمَلُهُمَا، وَكَذَا الْإِرْهَابُ، وَلِأَنَّ فِي كُلٍّ خُصُوصِيَّةً لَيْسَتْ فِي الْآخَرِ.
فَالْعَتِيقُ إنْ فُضِّلَ بِجَوْدَةِ الْكَرِّ وَالْفَرِّ فَالْبِرْذَوْنُ يُفَضَّلُ بِزِيَادَةِ قُوَّتِهِ عَلَى الْحَمْلِ وَالصَّبْرِ وَلِينِ الْعِطْفِ، وَكَوْنُهُ أَلْيَنَ عِطْفًا مِنْ الْعَرَبِيِّ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ هَذَا دَائِرٌ مَعَ التَّعْلِيمِ، وَالْعَرَبِيُّ أَقْبَلُ لِلْآدَابِ مِنْ الْعَجَمِيِّ مِنْ الْخَيْلِ، وَكَوْنُ أَحَدٍ يَقول لَا يُسْهِمُ بِالْكُلِّيَّةِ لِلْفَرَسِ الْعَجَمِيِّ بَعِيدٌ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَهُ لِمَا نَقَلَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ فَضَّلَ أَصْحَابَ الْخَيْلِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الْمُقَارِفِ.
وَفِي سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ قَالَ: كَتَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيِّ وَهُوَ بِأَرْمِينِيَّةَ يَأْمُرُهُ أَنْ يُفَضِّلَ أَصْحَابَ الْخَيْلِ الْعِرَابِ عَلَى أَصْحَابِ الْخَيْلِ الْمُقَارِفِ فِي الْعَطَاءِ، فَعَرَضَ الْخَيْلَ فَمَرَّ بِهِ عَمْرُو بْنُ مُعْدِي كَرِبَ فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: فَرَسُكَ هَذَا مُقْرِفٌ، فَغَضِبَ عَمْرٌو وَقَالَ: هَجِينٌ عَرَفَ هَجِينًا مِثْلَهُ، فَوَثَبَ إلَيْهِ قَيْسٌ: يَعْنِي ابْنَ مَكْشُوحٍ فَتَوَعَّدَهُ، فَقَالَ عَمْرٌو:
أَتُوعِدُنِي كَأَنَّك ذُو رُعَيْنٍ ** بِأَفْضَلِ عِيشَةٍ أَوْ ذُو نُوَاسِ

وَكَائِنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنْ نُعَيْمٍ ** وَمُلْكٍ ثَابِتُ فِي النَّاسِ رَاسِي

قَدِيمٌ عَهْدُهُ مِنْ عَهْدِ عَادٍ ** عَظِيمٌ قَاهِرُ الْجَبَرُوتِ قَاسِي

فَأَمْسَى أَهْلُهُ بَادُوا وَأَمْسَى ** يُحَوَّلُ مِنْ أُنَاسٍ فِي أُنَاسِ


متن الهداية:
(وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا فَنَفَقَ فَرَسُهُ اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ، وَمَنْ دَخَلَ رَاجِلًا فَاشْتَرَى فَرَسًا اسْتَحَقَّ سَهْمَ رَاجِلٍ) وَجَوَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى عَكْسِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ، وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَنَا حَالَةُ الْمُجَاوَزَةِ، وَعِنْدَهُ حَالَةُ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ لَهُ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْقَهْرُ وَالْقِتَالُ فَيُعْتَبَرُ حَالُ الشَّخْصِ عِنْدَهُ وَالْمُجَاوَزَةُ وَسِيلَةٌ إلَى السَّبَبِ كَالْخُرُوجِ مِنْ الْبَيْتِ، وَتَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِالْقِتَالِ يَدُلُّ عَلَى إمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَعَذَّرَ أَوْ تَعَسَّرَ تَعَلَّقَ بِشُهُودِ الْوَقْعَةِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْقِتَالِ.
وَلَنَا أَنَّ الْمُجَاوَزَةَ نَفْسَهَا قِتَالٌ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمْ الْخَوْفُ بِهَا وَالْحَالُ بَعْدَهَا حَالَةُ الدَّوَامِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِهَا؛ وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى حَقِيقَةِ الْقِتَالِ مُتَعَسِّرٌ؛ وَكَذَا عَلَى شُهُودِ الْوَقْعَةِ لِأَنَّ حَالَ الْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ فَتُقَامُ الْمُجَاوَزَةُ مَقَامَهُ؛ إذْ هُوَ السَّبَبُ الْمُفْضِي إلَيْهِ ظَاهِرًا إذَا كَانَ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ فَيُعْتَبَرُ حَالُ الشَّخْصِ بِحَالَةِ الْمُجَاوَزَةِ فَارِسًا كَانَ أَوْ رَاجِلًا.
وَلَوْ دَخَلَ فَارِسًا وَقَاتَلَ رَاجِلًا لِضِيقِ الْمَكَانِ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ دَخَلَ فَارِسًا ثُمَّ بَاعَ فَرَسَهُ أَوْ وَهَبَ أَوْ أَجَّرَ أَوْ رَهَنَ فَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ اعْتِبَارًا لِلْمُجَاوَزَةِ.
وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الرَّجَّالَةِ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ بِالْمُجَاوَزَةِ الْقِتَالُ فَارِسًا.
وَلَوْ بَاعَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ لَمْ يَسْقُطْ سَهْمُ الْفُرْسَانِ، وَكَذَا إذَا بَاعَ فِي حَالَةِ الْقِتَالِ عِنْدَ الْبَعْضِ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَرَضَهُ التِّجَارَةُ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ يَنْتَظِرُ عِزَّتَهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا فَنَفَقَ فَرَسُهُ) أَيْ هَلَكَ فَقَاتَلَ رَاجِلًا (اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ. وَمَنْ دَخَلَ رَاجِلًا فَاشْتَرَى) فِي دَارِ الْحَرْبِ (فَرَسًا) فَقَاتَلَ فَارِسًا عَلَيْهِ (اسْتَحَقَّ سَهْمَ رَاجِلٍ، وَجَوَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى عَكْسِهِ) فِي الْفَصْلَيْنِ (وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) أَيْ فِيمَا إذَا دَخَلَ رَاجِلًا فَاشْتَرَى فَرَسًا فَقَاتَلَ عَلَيْهِ أَنَّ لَهُ سَهْمَ فَارِسٍ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلُ (وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَنَا حَالَةُ الْمُجَاوَزَةِ) أَيْ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ وَهُوَ الْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ (وَعِنْدَهُ حَالَ الْحَرْبِ. لَهُ أَنَّ السَّبَبَ) فِي اسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ إذَا وُجِدَتْ (هُوَ قَتْلَاهُ فَيُعْتَبَرُ حَالُ الشَّخْصِ) الْمُسْتَحَقِّ (عِنْدَهُ) دُونَ الْمُجَاوَزَةِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا هِيَ (وَسِيلَةٌ إلَى السَّبَبِ) أَيْ الْعِلَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ (كَالْخُرُوجِ مِنْ الْبَيْتِ) لِقَصْدِ الْقِتَالِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى السَّبَبِ، وَحَالَةُ الْغَازِي عِنْدَ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ لَا تُعْتَبَرُ، فَكَذَا عِنْدَ الْمُجَاوَزَةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالَ الْقِتَالِ تَعَلُّقُ الْأَحْكَامِ بِهِ الرَّاجِعَةِ إلَى اسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ اتِّفَاقًا فِيمَا إذَا قَاتَلَ الصَّبِيُّ أَوْ الْعَبْدُ أَوْ غَيْرُهُمَا فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الرَّضْخَ، فَظَهَرَ اعْتِبَارُهُ شَرْعًا فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِهِ الْغَنِيمَةَ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَذَّرٍ (وَلَوْ تَعَذَّرَ أَوْ تَعَسَّرَ فَبِشُهُودِ الْوَقْعَةِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْقِتَالِ) مِنْ الْمُجَاوَزَةِ (وَلَنَا أَنَّ الْمُجَاوَزَةَ نَفْسَهَا مِنْ الْقِتَالِ؛ لِأَنَّهُمْ يَلْحَقُهُمْ الْخَوْفُ بِهَا) وَالْإِغَاظَةُ، (وَالْحَالُ بَعْدَهَا حَالُ بَقَاءِ الْقِتَالِ) إلَّا أَنَّهُ تَنَوُّعُ الْقِتَالِ إلَى الْمُجَاوَزَةِ إلَى دَرَاهِمِ، وَسُلُوكُهُمْ قَهْرًا بِالْمَنَعَةِ لِإِهْلَاكِهِمْ وَإِلَى حَقِيقَةِ الْمُسَايَفَةِ (وَلَا مُعْتَبَرَ بِحَالِ الدَّوَامِ، وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى حَقِيقَةِ الْقِتَالِ مُتَعَسِّرٌ، وَكَذَا عَلَى شُهُودِ الْوَقْعَةِ لِأَنَّ حَالَ) شُغْلِ شَاغِلٍ لِكُلِّ أَحَدٍ فَيَتَعَذَّرُ عَلَى الْإِمَامِ اسْتِعْلَامُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِشَهَادَةِ الْعَدْلِ بِهِ لِكُلِّ فَرْدٍ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ، بِخِلَافِهِ فِي حَقِّ أَفْرَادٍ قَلِيلَةٍ مِنْ النَّاسِ كَقِتَالِ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ فَأُدِيرَ فِي حَقِّهِمْ عَلَيْهِ دُونَ سَائِرِ النَّاسِ فَيُقَامُ فِي حَقِّ الْكُلِّ السَّبَبُ الْمُفْضِي إلَى الْقِتَالِ ظَاهِرَ مَقَامِهِ فَيَكُونُ هُوَ الْمُعْتَبَرَ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ.
وَأَمَّا مَا قِيلَ فِي التَّعَذُّرِ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ لَا تُقْبَلُ لِلتُّهْمَةِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ يَجِبُ قَبُولُهَا؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ عَلَى أَنَّ هَذَا قَاتَلَ فَارِسًا لَا يَجُرُّ بِذَلِكَ نَفْعًا لِنَفْسِهِ بَلْ ضَرَرًا فَإِنَّهُ يُنْقِصُ سَهْمَ نَفْسِهِ فَهُوَ يُلْزِمُ نَفْسَهُ أَوَّلًا الضَّرَرَ، وَشَرِكَتَهُ فِي أَصْلِ الْمَغْنَمِ لَيْسَتْ مُتَوَقِّفَةً عَلَى شَهَادَتِهِ هَذِهِ؛ أَلَا يَرَى إلَى مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ قول أَبِي قَتَادَةَ: مَنْ يَشْهَدُ لِي حَيْثُ جَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ فِي حُنَيْنٍ؟ فَشَهِدَ لَهُ وَاحِدٌ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ» وَلَا بَيِّنَةَ إلَّا أَهْلُ الْعَسْكَرِ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ خُصُوصًا فِي غَزَوَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (وَلَوْ دَخَلَ فَارِسًا وَقَاتَلَ رَاجِلًا لِضِيقِ الْمَكَانِ) أَوْ لِمُشَجَّرَةٍ أَوْ لِأَنَّهُ فِي سَفِينَةٍ دَخَلَ فِيهَا بِفَرَسِهِ لِيُقَاتِلَ عَلَيْهَا إذَا خَلَصَ إلَى بَرِّهِمْ فَلَاقُوهُمْ قَبْلَهُ وَاقْتَتَلُوا فِي السَّفِينَةِ كَانَ لَهُمْ سَهْمُ الْفُرْسَانِ (وَلَوْ دَخَلَ فَارِسًا ثُمَّ بَاعَ فَرَسَهُ أَوْ وَهَبَهُ) وَسَلَّمَهُ (أَوْ أَجَّرَهُ أَوْ رَهَنَهُ فَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ اعْتِبَارًا لِلْمُجَاوَزَةِ وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ لَا يَسْتَحِقُّهُ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِالْمُجَاوَزَةِ) بِالْفَرَسِ (الْقِتَالَ) عَلَيْهِ بَلْ التِّجَارَةَ بِهِ، وَسَبَبُ اسْتِحْقَاقِ سَهْمِ الْفَارِسِ هُوَ الْمُجَاوَزَةُ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ عَلَيْهِ لَا مُطْلَقُ الْمُجَاوَزَةِ (وَلَوْ بَاعَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِتَالِ لَا يَسْقُطُ سَهْمُ الْفَارِسِ) بِالِاتِّفَاقِ (وَكَذَا إذَا بَاعَهُ حَالَةَ الْقِتَالِ) لَا يَسْقُطُ (عِنْدَ الْبَعْضِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ) لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ قَصْدَهُ التِّجَارَةُ وَإِنَّمَا انْتَظَرَ حَالَةَ الْعِزَّةِ.
وَعُورِضَ بِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةِ حَالَةُ الْمُخَاطَرَةِ بِالنَّفْسِ فَلَمْ يَكُنْ الْبَيْعُ دَلِيلًا عَلَى قَصْدِ التِّجَارَةِ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ طَلَبُ النَّفْسِ التَّحَصُّنَ، فَبَيْعُهُ فِيهَا دَلِيلٌ أَنَّهُ عَنَّ لَهُ غَرَضٌ الْآنَ فِيهِ، إمَّا لِأَنَّهُ وَجَدَهُ غَيْرَ مُوَافِقٍ لَهُ فَرُبَّمَا يَقْتُلُهُ لِعَدَمِ أَدَبِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ لَيْسَ هُوَ الْبَيْعَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْعُقُودِ حَالَةَ الْقِتَالِ لِيَكُونَ بَيْعُهُ إذْ ذَاكَ انْتِظَارًا لِحَالَةِ الرَّغَبَاتِ فِي الشِّرَاءِ.
وَفِي الْمُحِيطِ: لَوْ جَاوَزَ بِفَرَسٍ لَا يَسْتَطِيعُ الْقِتَالُ عَلَيْهِ لِكِبَرِهِ أَوْ ضَعْفِهِ أَوْ هُزَالِهِ لَا يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ، وَإِنْ كَانَ الْفَرَسُ مَرِيضًا فَعَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ فِيهِ، وَلَوْ جَاوَزَ عَلَى فَرَسٍ مَغْصُوبٍ أَوْ مُسْتَعَارٍ أَوْ مُسْتَأْجَرٍ ثُمَّ اسْتَرَدَّهُ الْمَالِكُ فَشَهِدَ الْوَقْعَةَ رَاجِلًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لَهُ سَهْمُ فَارِسٍ، وَفِي رِوَايَةٍ سَهْمُ رَاجِلٍ.
وَمُقْتَضَى كَوْنِهِ جَاوَزَ بِفَرَسٍ لِقَصْدِ الْقِتَالِ عَلَيْهِ تُرَجَّحُ الْأُولَى، إلَّا أَنْ يُزَادَ فِي أَجْزَاءِ السَّبَبِ بِفَرَسٍ مَمْلُوكٍ وَهُوَ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْتَرِدَّهُ الْمُعِيرُ وَغَيْرُهُ حَتَّى قَاتَلَ عَلَيْهِ كَانَ فَارِسًا.

متن الهداية:
(وَلَا يُسْهِمُ لِمَمْلُوكٍ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا صَبِيٍّ وَلَا ذِمِّيٍّ وَلَكِنْ يَرْضَخُ لَهُمْ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى الْإِمَامُ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ لَا يُسْهِمُ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعَبِيدِ وَكَانَ يَرْضَخُ لَهُمْ» وَلَمَّا اسْتَعَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْيَهُودِ عَلَى الْيَهُودِ لَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ: يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يُسْهِمْ لَهُمْ، وَلِأَنَّ الْجِهَادَ عِبَادَةٌ، وَالذِّمِّيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ، وَالصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ عَاجِزَانِ عَنْهُ وَلِهَذَا لَمْ يَلْحَقْهُمَا فَرْضُهُ، وَالْعَبْدُ لَا يُمْكِنُهُ الْمُوَلَّى وَلَهُ مَنْعُهُ، إلَّا أَنَّهُ يَرْضَخُ لَهُمْ تَحْرِيضًا عَلَى الْقِتَالِ مَعَ إظْهَارِ انْحِطَاطِ رُتْبَتِهِمْ، وَالْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ لِقِيَامِ الرِّقِّ وَتَوَهُّمِ عَجْزِهِ فَيَمْنَعُهُ الْمُوَلَّى عَنْ الْخُرُوجِ إلَى الْقِتَالِ ثُمَّ الْعَبْدُ إنَّمَا يَرْضَخُ لَهُ إذَا قَاتَلَ لِأَنَّهُ دَخَلَ لِخِدْمَةِ الْمُوَلَّى فَصَارَ كَالتَّاجِرِ، وَالْمَرْأَةُ يَرْضَخُ لَهَا إذَا كَانَتْ تُدَاوِي الْجَرْحَى، وَتَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى لِأَنَّهَا عَاجِزَةٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْقِتَالِ فَيُقَامُ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِعَانَةِ مَقَامَ الْقِتَالِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى حَقِيقَةِ الْقِتَالِ، وَالذِّمِّيُّ إنَّمَا يَرْضَخُ لَهُ إذَا قَاتَلَ أَوْ دَلَّ عَلَى الطَّرِيقِ، وَلَمْ يُقَاتِلْ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنَّهُ يُزَادُ عَلَى السَّهْمِ فِي الدَّلَالَةِ إذَا كَانَتْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ عَظِيمَةٌ، وَلَا يَبْلُغُ بِهِ السَّهْمَ إذَا قَاتَلَ؛ لِأَنَّهُ جِهَادٌ، وَالْأَوَّلُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِهِ وَلَا يُسَوِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ فِي حُكْمِ الْجِهَادِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يُسْهِمُ لِمَمْلُوكٍ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا صَبِيٍّ وَلَا ذِمِّيٍّ وَلَكِنْ يَرْضَخُ لَهُمْ) أَيْ يُعْطَوْنَ مِنْ كَثِيرٍ، فَإِنَّ الرَّضْخَةَ هِيَ الْإِعْطَاءُ كَذَلِكَ، وَالْكَثِيرُ السَّهْمُ، فَالرَّضْخُ لَا يَبْلُغُ السَّهْمَ وَلَكِنْ دُونَهُ (عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى الْإِمَامُ) وَسَوَاءٌ قَاتَلَ الْعَبْدُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ (وَالْمُكَاتَبُ كَالْعَبْدِ) لِمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ.
وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يُسْهِمُ إلَخْ.
أَخْرَجَ مُسْلِمٌ: كَتَبَ نَجْدَةُ بْنُ عَامِرٍ الْحَرُورِيُّ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ يَحْضُرَانِ الْمَغْنَمَ هَلْ يُقْسَمُ لَهُمَا؟ فَكَتَبَ إلَيْهِ: أَنْ لَيْسَ لَهُمَا شَيْءٌ إلَّا أَنْ يُحْذَيَا.
وَفِي أَبِي دَاوُد عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ: كَتَبَ نَجْدَةُ الْحَرُورِيُّ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ النِّسَاءِ هَلْ كُنَّ يَشْهَدْنَ الْحَرْبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: أَنَا كَتَبْت كِتَابَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إلَى نَجْدَةَ، قَدْ كُنَّ يَحْضُرْنَ الْحَرْبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِمَّا أَنْ يُضْرَبَ لَهُنَّ بِسَهْمٍ فَلَا، وَقَدْ كَانَ يَرْضَخُ لَهُنَّ.
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَالَ: شَهِدْت خَيْبَرَ مَعَ سَادَاتِي، إلَى أَنْ قَالَ: فَأَخْبَرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ.
وَأَمَّا مَا فِي أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَدَّةِ حَشْرَجَ بْنِ زِيَادَةَ أُمِّ أَبِيه: «أَنَّهَا خَرَجَتْ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ سَادِسَةَ سِتِّ نِسْوَةٍ، فَبَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ إلَيْنَا فَجِئْنَا فَرَأَيْنَا فِي وَجْهِهِ الْغَضَبَ فَقَالَ: مَعَ مَنْ خَرَجْتُنَّ؟ وَبِإِذْنِ مَنْ خَرَجْتُنَّ؟ فَقُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ خَرَجْنَا نَغْزِلُ الشَّعْرَ وَنُعِينُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَعَنَا دَوَاءٌ لِلْجَرْحَى وَنُنَاوِلُ السِّهَامَ وَنَسْقِي السَّوِيقَ، فَقَالَ: قُمْنَ حَتَّى إذَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ خَيْبَرَ أَسْهَمَ لَنَا كَمَا أَسْهَمَ لِلرِّجَالِ» وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ.
وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُ لِجَهَالَةِ رَافِعٍ وَحَشْرَجَ مِنْ رُوَاتِهِ.
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَطَابَ أَنْفُسَ أَهْلِ الْغَنِيمَةِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: يُشْبِهُ أَنَّهُ إنَّمَا أَعْطَاهُنَّ مِنْ الْخُمُسِ الَّذِي هُوَ حَقُّهُ.
هَذَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَوْنُ التَّشْبِيهِ فِي أَصْلِ الْعَطَاءِ، وَأَرَادَتْ بِالسَّهْمِ مَا خُصِّصَ بِهِ.
وَالْمَعْنَى خَصَّنَا بِشَيْءٍ كَمَا فَعَلَ بِالرِّجَالِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَبْلُغْ بِهَؤُلَاءِ الرَّجَّالَةِ مِنْهُمْ سَهْمُ الرَّجَّالَةِ وَلَا بِالْفَارِسِ سَهْمُ الْفُرْسَانِ، لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ أُصُولٌ فِي التَّبَعِيَّةِ حَيْثُ لَمْ يَفْرِضْ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي غَيْرِ النَّفِيرِ الْعَامِّ فِي غَيْرِ الصَّبِيِّ، وَيَزِيدُ الذِّمِّيَّ بِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لَهُ لِكَوْنِ الْجِهَادِ عِبَادَةً وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا.
وَمِنْ الْأُمُورِ الِاسْتِحْسَانَيْةِ إظْهَارُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْمَفْرُوضِ عَلَيْهِمْ وَغَيْرِهِمْ وَالتَّبَعِ وَالْأَصْلِ بِخِلَافِ السُّوقِيِّ فِي الْعَسْكَرِ وَالْمُسْتَأْجَرِ لِخِدْمَةِ الْغَازِي إذَا قَاتَلَا حَيْثُ يَسْتَحِقَّانِ سَهْمًا كَامِلًا، وَتَسْقُطُ حِصَّتُهُ زَمَنَ الْقِتَالِ مِنْ أُجْرَةِ الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ فَرْضِهِ فَلَمْ يَكُونَا تَبَعًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ بَلْ فِي السَّفَرِ وَنَحْوِهِ.
ثُمَّ الرَّضْخُ عِنْدَنَا مِنْ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ إخْرَاجِ الْخُمُسِ، وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَحْمَدَ، وَفِي قول لَهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ مِنْ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ.
وَفِي قول لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: مِنْ الْخُمُسِ (ثُمَّ الْعَبْدُ إنَّمَا يُرْضَخُ لَهُ إذَا قَاتَلَ) وَكَذَا الصَّبِيُّ وَالذِّمِّيُّ لِأَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْقِتَالِ إذَا فُرِضَ الصَّبِيُّ قَادِرًا عَلَيْهِ فَلَا يُقَامُ غَيْرُ الْقِتَالِ فِي حَقِّهِمْ مَقَامَهُ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا تُعْطَى بِالْقِتَالِ وَبِالْخِدْمَةِ لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ، وَإِنْ لَمْ تُقَاتِلْ لِأَنَّهَا عَاجِزَةٌ عَنْهُ فَأُقِيمَ هَذِهِ الْمَنْفَعَةُ مِنْهَا مَقَامَهُ وَصِحَّةُ أَمَانِهَا لِثُبُوتِ شُبْهَةِ الْقِتَالِ مِنْهَا، وَالْأَمَانُ يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ احْتِيَاطًا فِيهِ، وَلَا يَرِدُ إعْطَاءُ الذِّمِّيِّ إذَا لَمْ يُقَاتِلْ، بَلْ دَلَّ عَلَى الطَّرِيقِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ رَضْخًا بَلْ بِمَقَامِ الْأُجْرَةُ وَلِهَذَا يُزَادُ عَلَى السَّهْمِ إذَا كَانَ عَمَلُهُ ذَلِكَ تَزِيدُ قِيمَتُهُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَاتَلَ لِأَنَّهُ عَمَلُ الْجِهَادِ، وَلَا يُسَوَّى فِي عَمَلِ الْجِهَادِ بَيْنَ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ وَيُؤْجَرُ عَلَيْهِ وَمَنْ لَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ مِنْهُ وَلَا يُصَحِّحُهُ لَهُ فَلِذَلِكَ (لَا يَبْلُغُ بِهِ السَّهْمُ) كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
قَالُوا: وَالسَّهْمُ مَرْفُوعٌ أَلْبَتَّةَ لِأَنَّهُ الْمَفْعُولُ بِلَا وَاسِطَةِ حَرْفٍ فَيَكُونُ هُوَ النَّائِبَ عَنْ الْفَاعِلِ، وَهَذَا عَلَى قول الْأَكْثَرِ، وَأَمَّا مَنْ يُجِيزُ إقَامَةَ الظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ مَعَ وُجُودِ الْمَفْعُولِ فَيُجِيزُ نَصْبَهُ وَيَكُونُ النَّائِبُ لَفَظَ بِهِ.
وَهَلْ يُسْتَعَانُ بِالْكَافِرِ عِنْدَنَا إذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ جَازَ، وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَجَمَاعَةٌ لَا يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ لِمَا فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَرَجَ إلَى بَدْرٍ فَلَحِقَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ، فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ قَالَ لَا، قَالَ: ارْجِعْ فَلَنْ نَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ لَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ نَعَمْ، قَالَ انْطَلِقْ» وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ إسَافٍ قَال: «أَتَيْت أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ قَوْمِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُرِيدُ غَزْوًا، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَسْتَحِي أَنْ يَشْهَدَ قَوْمُنَا مَشْهَدًا لَا نَشْهَدُهُ مَعَهُمْ، فَقَالَ: أَتُسْلِمَانِ؟ فَقُلْنَا: لَا، فَقَالَ: إنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِالْمُشْرِكِينَ، قَالَ: فَأَسْلَمْنَا وَشَهِدْنَا مَعَهُ. قَالَ: فَقَتَلْت رَجُلًا وَضَرَبَنِي ضَرْبَةً وَتَزَوَّجْت بِنْتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَانَتْ تَقول: لَا عَدِمْت رَجُلًا وَشَّحَكَ هَذَا الْوِشَاحَ، فَأَقول: لَا عَدِمْت رَجُلًا عَجَّلَ أَبَاكِ إلَى النَّارِ» رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.
وَقول الْمُصَنِّفِ: وَلَمَّا اسْتَعَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْيَهُودِ عَلَى الْيَهُودِ لَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ: يَعْنِي لَمْ يُسْهِمُ لَهُمْ يُفِيدُ مُعَارَضَةَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَالْمَذْكُورُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَخْبَرْنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: «اسْتَعَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَهُودِ قَيْنُقَاعَ فَرَضَخَ لَهُمْ وَلَمْ يُسْهِمْ» وَلَكِنْ تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ عُمَارَةَ وَهُوَ مُضَعَّفٌ.
وَأَسْنَدَ الْوَاقِدِيُّ إلَى مُحَيِّصَةُ قَالَ: «وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَشَرَةٍ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ غَزَا بِهِمْ أَهْلَ خَيْبَرَ وَأَسْهَمَ لَهُمْ كَسُهْمَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُقَالُ أَحَذَاهُمْ وَلَمْ يُسْهِمْ لَهُمْ».
وَأَسْنَدَ التِّرْمِذِيُّ إلَى الزُّهْرِيِّ قَالَ: «أَسْهَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِقَوْمٍ مِنْ الْيَهُودِ قَاتَلُوا مَعَهُ» وَهُوَ مُنْقَطِعٌ وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ، مَعَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ الْقَطَّانِ كَانَ لَا يَرَى مَرَاسِيلَ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ شَيْئًا وَيَقول: هِيَ بِمَنْزِلَةِ الرِّيحِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ لَا تُقَاوِمُ أَحَادِيثَ الْمَنْعِ فِي الْقُوَّةِ فَكَيْفَ تُعَارِضُهَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: رَدُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُشْرِكَ وَالْمُشْرِكِينَ كَانَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، ثُمَّ إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَعَانَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ بِيَهُودِ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَاسْتَعَانَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ سَنَةَ ثَمَانٍ بِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَالرَّدُّ إنْ كَانَ لِأَجْلِ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهِ وَأَنْ يَرُدَّهُ كَمَا لَهُ رَدُّ الْمُسْلِمِ الْمَعْنَى يَخَافُهُ فَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ مُخَالِفًا لِلْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ أَنَّهُ مُشْرِكٌ فَقَدْ نَسَخَهُ مَا بَعْدَهُ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُسْتَعَانَ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ إذَا خَرَجُوا طَوْعًا وَيَرْضَخُ لَهُمْ وَلَا يُسْهِمُ لَهُمْ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ رَايَةٌ تَخُصُّهُمْ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَسْهَمَ لَهُمْ، وَلَعَلَّ رَدَّهُ مَنْ رَدَّهُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ رَجَاءَ أَنْ يُسْلِمَ.

متن الهداية:
(وَأَمَّا الْخُمُسُ فَيُقَسَّمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلْيَتَامَى وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ يَدْخُلُ فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى فِيهِمْ وَيُقَدَّمُونَ، وَلَا يُدْفَعُ إلَى أَغْنِيَائِهِمْ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُمْ خُمُسُ الْخُمُسِ يَسْتَوِي فِيهِ غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ، وَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَيَكُونُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ لِقولهِ تعالى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} مِنْ غَيْرِ فَصْلِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ.
وَلَنَا أَنَّ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ الرَّاشِدِينَ قَسَّمُوهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَاهُ وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةً.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «يَا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ النَّاسِ وَأَوْسَاخَهُمْ وَعَوَّضَكُمْ مِنْهَا بِخُمُسِ الْخُمُسِ» وَالْعِوَضُ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ الْمُعَوَّضُ وَهُمْ الْفُقَرَاءُ.
وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْطَاهُمْ لِلنُّصْرَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَّلَ فَقَالَ: «إنَّهُمْ لَنْ يَزَالُوا مَعِي هَكَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ النَّصْرِ قُرْبُ النُّصْرَةِ لَا قُرْبُ الْقَرَابَةِ.
قَالَ: (فَأَمَّا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْخُمُسِ فَإِنَّهُ لِافْتِتَاحِ الْكَلَامِ تَبَرُّكًا بِاسْمِهِ، وَسَهْمُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَقَطَ بِمَوْتِهِ كَمَا سَقَطَ الصَّفِيُّ) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَسْتَحِقُّهُ بِرِسَالَتِهِ وَلَا رَسُولَ بَعْدَهُ وَالصَّفِيُّ شَيْءٌ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَصْطَفِيهِ لِنَفْسِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ مِثْلَ دِرْعٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ جَارِيَةٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُصْرَفُ سَهْمُ الرَّسُولِ إلَى الْخَلِيفَةِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ (وَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى كَانُوا يَسْتَحِقُّونَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنُّصْرَةِ) لِمَا رَوَيْنَا.
قَالَ: (وَبَعْدُ بِالْفَقْرِ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَصَمَهُ اللَّهُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ قول الْكَرْخِيِّ.
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: سَهْمُ الْفَقِيرِ مِنْهُمْ سَاقِطٌ أَيْضًا لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الصَّدَقَةِ نَظَرًا إلَى الْمَصْرِفِ فَيُحَرِّمُهُ كَمَا حَرَّمَ الْعِمَالَةَ.
وَجْهُ الْأَوَّلِ وَقِيلَ هُوَ الْأَصَحُّ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْطَى الْفُقَرَاءَ مِنْهُمْ، وَالْإِجْمَاعُ انْعَقَدَ عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْأَغْنِيَاءِ، أَمَّا فُقَرَاؤُهُمْ فَيَدْخُلُونَ فِي الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَأَمَّا الْخُمُسُ) أَيْ الَّذِينَ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يُخْرِجُهُ أَوَّلًا (فَيُقَسَّمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ سَهْمٌ لِلْيَتَامَى وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ يَدْخُلُ فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى فِيهِمْ وَيُقَدَّمُونَ) عَلَى غَيْرِهِمْ لِأَنَّ غَيْرَهُمْ مِنْ الْفُقَرَاءِ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ أَخْذِ الصَّدَقَاتِ، وَذَوُو الْقُرْبَى لَا تَحِلُّ لَهُمْ، هَذَا رَأْيُ الْكَرْخِيِّ، وَسَيَأْتِي رَأْيُ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْيَتَامَى مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى فِي سَهْمِ الْيَتَامَى الْمَذْكُورِينَ دُونَ أَغْنِيَائِهِمْ.
وَالْيَتِيمُ صَغِيرٌ لَا أَبَ لَهُ، وَالْمَسَاكِينُ مِنْهُمْ فِي سَهْمِ الْمَسَاكِينِ، وَفُقَرَاءُ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى فِي أَبْنَاءِ السَّبِيلِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلَا فَائِدَةَ حِينَئِذٍ فِي ذِكْرِ اسْمِ الْيَتِيمِ حَيْثُ كَانَ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ لَا بِالْيُتْمِ.
أُجِيبُ بِأَنَّ فَائِدَتَهُ دَفْعُ تَوَهُّمِ أَنَّ الْيَتِيمَ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الْغَنِيمَةِ شَيْئًا لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا بِالْجِهَادِ وَالْيَتِيمُ صَغِيرٌ فَلَا يَسْتَحِقُّهَا، وَمِثْلُهُ مَا ذُكِرَ فِي التَّأْوِيلَاتِ لِلشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ: لَمَّا كَانَ فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى يَسْتَحِقُّونَ بِالْفَقْرِ فَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِمْ فِي الْقُرْآنِ.
أَجَابَ بِأَنَّ أَفْهَامَ بَعْضِ النَّاسِ قَدْ تُفْضِي إلَى الْفَقِيرِ مِنْهُمْ لَا يَسْتَحِقُّ لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الصَّدَقَةِ وَلَا تَحِلُّ لَهُمْ.
وَفِي التُّحْفَةِ: هَذِهِ الثَّلَاثَةُ مَصَارِفَ، الْخُمُسُ عِنْدَنَا لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْقَاقِ حَتَّى لَوْ صُرِفَ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَازَ كَمَا فِي الصَّدَقَاتِ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لِذَوِي الْقُرْبَى خُمُسُ الْخُمُسِ يَسْتَوِي فِيهِ غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ) وَبِقول الشَّافِعِيِّ قَالَ أَحْمَدُ.
وَعِنْدَ مَالِكٍ: الْأَمْرُ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ إنْ شَاءَ قَسَّمَ بَيْنَهُمْ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى غَيْرَهُمْ إنْ كَانَ أَمْرُ غَيْرِهِمْ أَهَمَّ مِنْ أَمْرِهِمْ (وَيُقَسِّمُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَيَكُونُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ) مِنْ الْقَرَابَاتِ وَنَحْنُ نُوَافِقُهُ عَلَى أَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُرَادَةَ هُنَا تَخُصُّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، فَالْخِلَافُ فِي دُخُولِ الْغَنِيِّ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى وَعَدَمِهِ.
وَقَالَ الْمُزَنِيّ وَالثَّوْرِيُّ: يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَيَدْفَعُ لِلْقَاضِي وَالدَّانِي وَهُوَ ظَاهِرُ إطْلَاقِ النَّصِّ (لَهُ إطْلَاقٌ قوله تعالى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} بِلَا فَصْلٍ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ) وَلِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ بِوَصْفٍ يُوجِبُ أَنَّ مَبْدَأَ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةٌ لَهُ وَلَا تَفْصِيلَ فِيهَا بِخِلَافِ الْيَتَامَى فَإِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ فِيهِمْ الْفَقْرَ مَعَ تَحَقُّقِ الْإِطْلَاقِ كَقولنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ اسْمَ الْيَتِيمِ يُشْعِرُ بِالْحَاجَةِ فَكَانَ مُقَيَّدًا مَعْنًى بِهَا، بِخِلَافِ ذَوِي الْقُرْبَى، ثُمَّ لَا تَنْتَفِي مُنَاسَبَتُهَا بِالْغِنَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ كَوْنُ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ هَذِهِ الْكَرَامَةِ (وَلَنَا أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ قَسَّمُوهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةً) ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ أَحَدٌ مَعَ عِلْمِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ بِذَلِكَ وَتَوَافُرِهِمْ فَكَانَ إجْمَاعًا، إذْ لَا يُظَنُّ بِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْكَلَامُ فِي إثْبَاتِهِ، فَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ «الْخُمُسَ كَانَ يُقَسَّمُ عَلَى عَهْدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ: لِلَّهِ وَالرَّسُولِ سَهْمٌ، وَلِذِي الْقُرْبَى سَهْمٌ، وَلِلْيَتَامَى سَهْمٌ، وَلِلْمَسَاكِينِ سَهْمٌ، وَلِابْنِ السَّبِيلِ سَهْمٌ».
ثُمَّ قَسَّمَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ.
وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خُزَيْمَةَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: سَأَلْت أَبَا جَعْفَرَ: يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ فَقُلْت: أَرَأَيْت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ وُلِّيَ الْعِرَاقَ وَمَا وَلِيَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ كَيْفَ صَنَعَ فِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى؟ قَالَ: سَلَكَ بِهِ وَاَللَّهِ سَبِيلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقُلْت: وَكَيْفَ وَأَنْتُمْ تَقولونَ مَا تَقولونَ؟ قَالَ: أَمَا وَاَللَّهِ مَا كَانَ أَهْلُهُ يَصْدُرُونَ إلَّا عَنْ رَأْيِهِ، قُلْت: فَمَا مَنَعَهُ؟ قَالَ: كَرِهَ وَاَللَّهِ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ سِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ انْتَهَى.
وَكَوْنُ الْخُلَفَاءِ فَعَلُوا ذَلِكَ لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ، وَبِهِ تَصِحُّ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْ الْكَلْبِيِّ، فَإِنَّ الْكَلْبِيَّ مُضَعَّفٌ عَنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ إلَّا أَنَّهُ وَافَقَ النَّاسَ.
وَإِنَّمَا الشَّافِعِيُّ يَقول: لَا إجْمَاعَ بِمُخَالَفَةِ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَحِينَ ثَبَتَ هَذَا حَكَمْنَا بِأَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَهُ لِظُهُورِ أَنَّهُ الصَّوَابُ لَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُخَالِفَ اجْتِهَادُهُ اجْتِهَادَهُمَا، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ خَالَفَهُمَا فِي أَشْيَاءَ لَمْ تُوَافِقْ رَأْيَهُ كَبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَحِينَ وَافَقَهُمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ رَجَعَ إلَى رَأْيِهِمَا إنْ كَانَ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَرَى خِلَافَهُ.
وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَ رَأْيُ عَلِيٍّ فِي الْخُمُسِ رَأْيَ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ.
قَالَ: وَلَا إجْمَاعَ بِدُونِ أَهْلِ الْبَيْتِ لِأَنَّا نَمْنَعُ أَنْ فِعْلَهُ كَانَ تَقِيَّةً مِنْ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ خِلَافُهُمَا، وَكَيْفَ وَفِيهِ مَنْعُ الْمُسْتَحَقِّينَ مِنْ حَقِّهِمْ فِي اعْتِقَادِهِ فَلَمْ يَكُنْ مَنْعُهُ إلَّا لِرُجُوعِهِ وَظُهُورِ الدَّلِيلِ لَهُ، وَكَذَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَرَى ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَوَّلِ كَذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ، وَلَئِنْ لَمْ يَكُنْ رَجَعَ فَالْأَخْذُ بِقول الرَّاشِدِينَ مَعَ اقْتِرَانِهِ بِعَدَمِ النَّكِيرِ مِنْ أَحَدٍ أَوْلَى.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمْ لَمْ يَكُنْ سَهْمٌ مُسْتَحَقٌّ لِذَوِي الْقُرْبَى أَصْلًا لِأَنَّ الْخُلَفَاءَ لَمْ يُعْطُوهُمْ وَهُوَ الْحَقُّ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَلِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّهُ أَعْطَاهُمْ بِلَا شُبْهَةٍ.
أَجَابَ عَلَى قول الْكَرْخِيِّ أَنَّ الدَّلِيلَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ السَّهْمَ لِلْفَقِيرِ مِنْهُمْ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «يَا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ» الْحَدِيثَ، وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ غَرِيبٌ، وَتَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ.
وَأَسْنَدَ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَسَاقَ السَّنَدَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَ نَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ ابْنَيْهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمَا: انْطَلِقَا إلَى عَمِّكُمَا لَعَلَّهُ يَسْتَعِينُ بِكُمَا عَلَى صَدَقَاتٍ، فَأَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ بِحَاجَتِهِمَا، فَقَالَ لَهُمَا: «لَا يَحِلُّ لِأَهْلِ الْبَيْتِ مِنْ الصَّدَقَاتِ شَيْءٌ وَلَا غُسَالَةُ الْأَيْدِي، إنَّ لَكُمْ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ مَا يُغْنِيكُمْ وَيَكْفِيكُمْ» وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْدِيٍّ الْمِصِّيصِيُّ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ بِهِ بِلَفْظِ «رَغِبْت لَكُمْ عَنْ غُسَالَةِ أَيْدِي النَّاسِ إنَّ لَكُمْ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ مَا يُغْنِيكُمْ» وَهُوَ إسْنَادٌ حَسَنٌ، وَلَفْظُ الْعِوَضِ إنَّمَا وَقَعَ فِي عِبَارَةِ بَعْضِ التَّابِعِينَ، ثُمَّ فِي كَوْنِ الْعِوَضِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ الْمُعَوَّضُ مَمْنُوعٌ، ثُمَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقولهِ تعالى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى، فَيَقْتَضِي اعْتِقَادَ اسْتِحْقَاقِ فُقَرَائِهِمْ أَوْ كَوْنَهُمْ مَصَارِفَ مُسْتَمِرًّا، وَيُنَافِيهِ اعْتِقَادُ حَقِيقَةِ مَنْعِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ إيَّاهُمْ مُطْلَقًا، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ مَا رَوَيْنَا أَنَّهُمْ لَمْ يُعْطُوا ذَوِي الْقُرْبَى شَيْئًا مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءِ فُقَرَائِهِمْ، وَكَذَا يُنَافِيهِ إعْطَاؤُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْأَغْنِيَاءَ مِنْهُمْ، كَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ أَعْطَى الْعَبَّاسَ وَكَانَ لَهُ عِشْرُونَ عَبْدًا يَتَّجِرُونَ».
وَقول الْمُصَنِّفِ (وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُمْ لِلنُّصْرَةِ إلَخْ) يَدْفَعُ هَذَا السُّؤَالَ الثَّانِيَ، لَكِنْ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْمُنَاقَضَةَ مَعَ مَا قَبْلَهُ لِأَنَّ الْحَاصِلَ حِينَئِذٍ أَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ هِيَ الَّتِي كَانَتْ نُصْرَتَهُ، وَذَلِكَ لَا يَخُصُّ الْفَقِيرَ مِنْهُمْ، وَمِنْ الْأَغْنِيَاءِ مَنْ تَأَخَّرَ بَعْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَالْعَبَّاسِ فَكَانَ يَجِبُ عَلَى الْخُلَفَاءِ أَنْ يُعْطُوهُمْ، وَهُوَ خِلَافُ مَا نَقَلْتُمْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُعْطُوهُمْ بَلْ حَصَرُوا الْقِسْمَةَ فِي الثَّلَاثَةِ.
وَيُعَكِّرُ مَا سَيَرْوِيهِ فِي تَصْحِيحِ قول الْكَرْخِيِّ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْطَى الْفُقَرَاءَ مِنْهُمْ سَهْمًا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ إعْطَاءُ عُمَرَ بِقَيْدِ الْفَقْرِ مَرْوِيًّا، بَلْ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ مَا فِي أَبِي دَاوُد عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: حَدَّثَنَا جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِم: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقَسِّمْ لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَلَا لِبَنِي نَوْفَلٍ مِنْ الْخُمُسِ شَيْئًا كَمَا قَسَّمَ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ» قَالَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُقَسِّمُ الْخُمُسَ نَحْوَ قَسْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُعْطِي قُرْبَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانَ يُعْطِيهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ عُمَرُ يُعْطِيهِمْ وَمَنْ كَانَ بَعْدَهُ مِنْهُ.
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى سَمِعْت عَلِيًّا قَالَ: «اجْتَمَعْت أَنَا وَالْعَبَّاسُ وَفَاطِمَةُ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ رَأَيْت أَنْ تُوَلِّينِي حَقَّنَا مِنْ هَذَا الْخُمُسِ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَقْسِمُهُ حَيَاتَك كَيْ لَا يُنَازِعَنِي أَحَدٌ بَعْدَك فَافْعَلْ، قَالَ: فَفَعَلَ ذَلِكَ فَقَسَمْته حَيَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ وِلَايَةَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى كَانَ آخِرُ سَنَةٍ مِنْ سِنِي عُمَرَ أَتَاهُ مَالٌ كَثِيرٌ، فَعَزَلَ حَقَّنَا ثُمَّ أَرْسَلَهُ إلَيَّ فَقُلْت: بِنَا الْعَامَ غِنًى وَبِالْمُسْلِمِينَ إلَيْهِ حَاجَةٌ فَارْدُدْهُ عَلَيْهِمْ، فَرَدَّهُ ثُمَّ لَمْ يَدَعْنِي إلَيْهِ أَحَدٌ بَعْدَ عُمَرَ، فَلَقِيت الْعَبَّاسَ بَعْدَمَا خَرَجْت مِنْ عِنْدِ عُمَرَ فَقَالَ: يَا عَلِيُّ حَرَمْتَنَا الْغَدَاةَ شَيْئًا لَا يَرِدُ عَلَيْنَا وَكَانَ رَجُلًا دَاهِيًا» فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ تَقْيِيدُ الْإِعْطَاءِ بِفَقْرِ الْمُعْطَى مِنْهُمْ وَكَيْفَ وَالْعَبَّاسُ كَانَ مِمَّنْ يُعْطِي وَلَمْ يَتَّصِفْ بِالْفَقْرِ مَعَ أَنَّ الْحَافِظَ الْمُنْذِرِيَّ ضَعَّفَ هَذَا فَقَالَ:
وَفِي حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يُقَسِّمْ لِذَوِي الْقُرْبَى، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَسَّمَ لَهُمْ، وَحَدِيثُ جُبَيْرٍ صَحِيحٌ، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ لَا يَصِحُّ انْتَهَى.
وَاَلَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ عَلَى اعْتِقَادِهِ أَنَّ الرَّاشِدِينَ لَمْ يُعْطُوا ذَوِي الْقُرْبَى بَيَانَ مَصْرِفٍ لَا اسْتِحْقَاقَ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ لَهُمْ مَنْعُهُمْ بَعْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ أَنَّ ذَوِي الْقُرْبَى وَإِنْ قُيِّدْت بِالنُّصْرَةِ الْمُوَازِرَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُمْ بَقَوْا بَعْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُعْطُوهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يُعْطُوهُمْ كَانَ الْمُرَادُ بَيَانَ أَنَّهُمْ مَصَارِفُ: أَيْ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْمَذْكُورِينَ مَصْرِفٌ حَتَّى جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ، كَأَنْ يُعْطِيَ تَمَامَ الْخُمُسِ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَأَنْ يُعْطِيَ تَمَامَهُ لِلْيَتَامَى كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ التُّحْفَةِ فَجَازَ لِلرَّاشِدِينَ أَنْ يَصْرِفُوهُ إلَى غَيْرِهِمْ، خُصُوصًا وَقَدْ رَأَوْهُمْ أَغْنِيَاءَ مُتَمَوِّلِينَ إذْ ذَاكَ وَرَأَوْا صَرْفَهُ إلَى غَيْرِهِمْ أَنْفَعَ.
وَنَقول مَعَ ذَلِكَ: إنَّ الْفَقِيرَ مِنْهُمْ مَصْرِفٌ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى الْفُقَرَاءِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَيُدْفَعُ قول الطَّحَاوِيِّ: إنَّهُمْ يُحْرَمُونَ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الصَّدَقَةِ بِمَنْعِ كَوْنِ الْخُمُسِ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مَالُ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ حَقُّهُ أَضَافَهُ إلَيْهِمْ لَا حَقٌّ لَنَا لَزِمَنَا أَدَاؤُهُ طَاعَةً لَهُ لِيَصِيرَ وَسَخًا، وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَرَفَهُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِ، فَلَوْ كَانَ فِيهِ مَعْنَى الصَّدَقَةِ لَمْ يَفْعَلْ، لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَى هَذَا أَنَّ مُقْتَضَاهُ كَوْنُ الْغَنِيِّ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى مَصْرِفًا غَيْرَ أَنَّ الْخُلَفَاءَ لَمْ يُعْطُوهُمْ اخْتِيَارًا مِنْهُمْ لِغَيْرِهِمْ فِي الصَّرْفِ، وَالْمَذْهَبُ خِلَافُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْغَنِيُّ مَصْرِفًا صَحَّ الصَّرْفُ إلَيْهِ، وَأَجْزَأَ؛ لِأَنَّ الْمَصْرِفَ مِنْ حَيْثُ إذَا صُرِفَ إلَيْهِ سَقَطَ الْوَاجِبُ بِهِ وَلَيْسَ غِنَى ذَوِي الْقُرْبَى عِنْدَهُمْ كَذَلِكَ.
هَذَا وَأَمَّا أَنَّهُ يَكُونُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ لِأَنَّ كَوْنَهُمْ مَصَارِفَ كَانَ لِلنُّصْرَةِ فَلِمَا فِي أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ بِسَنَدِهِ إلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: أَخْبَرَنِي جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ قَالَ: «فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَتَرَكَ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، فَانْطَلَقْت أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلَاءِ بَنُو هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِلْوَضْعِ الَّذِي وَضَعَك اللَّهُ فِيهِمْ، فَمَا بَالُ إخْوَانِنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكَتْنَا وَقَرَابَتُنَا وَاحِدَةٌ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إنَّا وَبَنُو الْمُطَّلِبِ لَا نَفْتَرِقُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» أَشَارَ بِهَذَا إلَى نُصْرَتِهِمْ إيَّاهُ نُصْرَةَ الْمُؤَانَسَةِ وَالْمُوَافَقَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ إذَا ذَاكَ نَصْرَ قِتَالٍ فَهُوَ يُشِيرُ إلَى دُخُولِهِمْ مَعَهُ فِي الشِّعْبِ حِينَ تَعَاقَدَتْ قُرَيْشٌ عَلَى هِجْرَانِ بَنِي هَاشِمٍ وَأَنْ لَا يُبَايِعُوهُمْ وَلَا يُنَاكِحُوهُمْ، وَالْقِصَّةُ فِي السِّيرَةِ شَهِيرَةٌ.
وَعَنْ هَذَا اسْتَحَقَّتْ ذَرَارِيِّهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُمْ قِتَالٌ.
وَشَرْحُ قولهِ قَرَابَتُنَا وَاحِدَةٌ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَهَذَا الْجَدُّ، أَعْنِي عَبْدَ مَنَافٍ لَهُ أَوْلَادُ هَاشِمٍ الَّذِي مِنْ ذُرِّيَّتِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُطَّلِبُ وَنَوْفَلٌ وَعَبْدُ شَمْسٍ، فَكَانَ قَرَابَةُ كُلٍّ مِنْ نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَالْمُطَّلِبِ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاحِدَةً، فَمُقْتَضَى اسْتِحْقَاقِ ذَوِي الْقُرْبَى أَنْ يَسْتَحِقَّ الْكُلُّ عَلَى قول الشَّافِعِيِّ أَوْ يَكُونَ فُقَرَاءُ الْكُلِّ مَصَارِفَ عَلَى قولنَا، فَبَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ الْمُرَادَ الْقَرَابَةُ الَّتِي تَحَقَّقَ مِنْهَا تِلْكَ النُّصْرَةُ السَّابِقَةُ، وَمَنْعُ الرَّاشِدِينَ لَهُمْ لَيْسَ بِنَاءً عَلَى عِلْمِهِمْ بِعَدَمِ الِاسْتِحْقَاقِ بَلْ إنَّهُمْ مَصَارِفُ وَرَأَوْا غَيْرَهُمْ أَوْلَى مِنْهُمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
قولهُ: (فَأَمَّا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى إلَخْ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ ذَوِي الْقُرْبَى شَرَعَ يُبَيِّنُ حَالَ سَهْمِ اللَّهِ وَسَهْمِ الرَّسُولِ، فَذَكَرَ أَنَّ سَهْمَهُ وَسَهْمَ رَسُولِهِ وَاحِدٌ، فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} وَلِكَذَا وَكَذَا أَنَّ لَهُ سُبْحَانَهُ سَهْمًا كَمَا لِكُلٍّ مِنْ الْأَصْنَافِ سَهْمٌ، بَلْ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي افْتِتَاحِ الْكَلَامِ لِيَتَبَرَّكَ بِهِ بِذِكْرِ اسْمِهِ تعالى: {فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فَسَهْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ وَاحِدٌ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: سَهْمُ اللَّهِ ثَابِتٌ يُصْرَفُ إلَى بِنَاءِ بَيْتِهِ الْكَعْبَةِ إنْ كَانَتْ قَرِيبَةً، وَإِلَّا فَإِلَى مَسْجِدِ كُلِّ بَلْدَةٍ ثَبَتَ فِيهَا الْخُمُسُ.
وَدَفَعَهُ بِأَنَّ السَّلَفَ فَسَّرُوهُ بِمَا ذَكَرَ.
فَإِنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي كُرَيْبٌ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ وَرْقَاءَ عَنْ نَهْشَلٍ عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَرَأَ {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} ثُمَّ قَالَ: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ مِفْتَاحُ الْكَلَامِ {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وَكَذَا رَوَى الْحَاكِمُ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَنِيفَةِ فِيهِ قَالَ: هَذَا مِفْتَاحُ كَلَامِ اللَّهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، وَفِي غَيْرِ حَدِيثٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا بَعَثَ سَرِيَّةً فَغَنِمُوا خُمُسَ الْغَنِيمَةِ فَصَرَفَ ذَلِكَ الْخُمُسَ فِي خَمْسَةٍ»، فَعَلَى قول هَذَا الْقَائِلِ تَكُونُ فِي سِتَّةٍ.
قولهُ: (وَسَهْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَقَطَ بِمَوْتِهِ كَمَا سَقَطَ الصَّفِيُّ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَسْتَحِقُّهُ بِرِسَالَتِهِ وَلَا رَسُولَ بَعْدَهُ، وَالصَّفِيُّ شَيْءٌ كَانَ يَصْطَفِيهِ لِنَفْسِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ مِثْلَ دِرْعٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ جَارِيَةٍ) قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَإِخْرَاجِ الْخُمُسِ كَمَا اصْطَفَى ذَا الْفَقَارِ وَهُوَ سَيْفُ مُنَبَّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ حِينَ أَتَى بِهِ عَلِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ قَتَلَ مُنَبَّهًا ثُمَّ دَفَعَهُ إلَيْهِ، وَكَمَا اصْطَفَى صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ بْنِ أَخَطَبَ مِنْ غَنِيمَةِ خَيْبَرَ.
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَائِشَةَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُصْرَفُ سَهْمُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْخَلِيفَةِ) لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ بِإِمَامَتِهِ لَا بِرِسَالَتِهِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ) أَيْ مِنْ أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ إنَّمَا قَسَّمُوا الْخُمُسَ عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرَ لَقَسَّمُوهُ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَرَفَعُوا سَهْمَهُ لِأَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يُنْقَلُ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ، وَأَيْضًا فَهُوَ حُكْمٌ عُلِّقَ بِمُشْتَقٍّ وَهُوَ الرَّسُولُ فَيَكُونُ مَبْدَأُ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةً وَهُوَ الرِّسَالَةُ.
وَأَمَّا قول الْمُصَنِّفِ وَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى إلَخْ فَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يُغْنِي فِيهِ.
وَقولهُ (كَانُوا يَسْتَحِقُّونَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنُّصْرَةِ لِمَا رَوَيْنَا) يَعْنِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ (وَبَعْدَهُ بِالْفَقْرِ) لَا يَخْفَى ضَعْفُهُ فَإِنَّ قوله تعالى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُرْبَى الْمُخْتَصَّةُ بِتِلْكَ الْمُرَافَقَةِ فِي الضِّيقِ وَالْمُؤَانَسَةِ فِيهِ فَتَكُونُ الْمَصَارِفُ مُطْلَقًا فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَمَاتِ، وَإِمَّا الْفُقَرَاءُ مِنْهُمْ فَهُمْ الْمَصَارِفُ كَذَلِكَ: أَيْ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ، فَلَيْسَ الْوَجْهُ فِيهِ إلَّا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ أُرِيدَ أَنَّ الْقَرَابَةَ النَّاصِرَةَ مَصَارِفُ كَغَيْرِهِمْ، غَيْرَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْطَاهُمْ اخْتِيَارًا لِأَحَدِ الْحَائِزِينَ لَهُ، لَا أَنَّ الصَّرْفَ إلَيْهِمْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مَصْرِفٍ دُونَ مَصْرِفٍ، ثُمَّ رَأَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الصَّرْفَ إلَى غَيْرِهِمْ.
وَأَمَّا فُقَرَاؤُهُمْ فَالْأَوْلَى أَنْ يُعْطَوْا لِمَا قَدَّمْنَاهُ وَمَا هُوَ الْحَقُّ فِي التَّقْرِيرِ، وَإِنَّمَا قَالَ: (وَقِيلَ هُوَ الصَّحِيحُ) أَيْ قول الْكَرْخِيِّ لِأَنَّ مِنْ الْمَشَايِخِ كَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ مَنْ يُرَجِّحُ قول الطَّحَاوِيِّ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّ تَوْجِيهَهُ بِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْطَى الْفُقَرَاءَ مِنْهُمْ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ.
وَقولهُ (وَالْإِجْمَاعُ انْعَقَدَ عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْأَغْنِيَاءِ) يُرِيدُ إجْمَاعَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَإِلَّا فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ إلَى الْيَوْمِ مِنْ الْعُلَمَاءِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا دَخَلَ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ دَارَ الْحَرْبِ مُغِيرَيْنِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَأَخَذُوا شَيْئًا لَمْ يُخَمَّسْ) لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ هُوَ الْمَأْخُوذُ قَهْرًا وَغَلَبَةً لَا اخْتِلَاسًا وَسَرِقَةً، وَالْخُمُسُ وَظِيفَتُهَا، وَلَوْ دَخَلَ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُخَمَّسُ لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لَهُمْ الْإِمَامُ فَقَدْ الْتَزَمَ نُصْرَتَهُمْ بِالْإِمْدَادِ فَصَارَ كَالْمَنَعَةِ (فَإِنْ دَخَلَتْ جَمَاعَةٌ لَهَا مَنَعَةٌ فَأَخَذُوا شَيْئًا خُمِّسَ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ الْإِمَامُ) لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ قَهْرًا وَغَلَبَةً فَكَانَ غَنِيمَةً، وَلِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَنْصُرَهُمْ إذْ لَوْ خَذَلَهُمْ كَانَ فِيهِ وَهْنُ الْمُسْلِمِينَ، بِخِلَافِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ نُصْرَتُهُمْ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا دَخَلَ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ دَارَ الْحَرْبِ مُغِيرِينَ إلَخْ) جَمَعَهُ نَظَرًا إلَى قولهِ فَأَخَذُوا.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْكَلَامَ أَيْضًا فِي قولهِ فَأَخَذُوا وَيُمْكِنُ كَوْنُهُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَةَ أَيْضًا مُرَادٌ إذَا دَخَلَ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ (فَأَخَذُوا شَيْئًا لَمْ يُخَمَّسْ) وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ الثَّلَاثَةَ كَالْوَاحِدِ، وَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ فَيُخَمِّسُ.
وَفِي الْمُحِيطِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ قَدَّرَ الْجَمَاعَةَ الَّتِي لَا مَنَعَةَ لَهَا بِسَبْعَةٍ، وَاَلَّتِي لَهَا مَنَعَةٌ بِعَشَرَةٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ يُخَمَّسُ مَا أَخَذَهُ الْوَاحِدُ تَلَصُّصًا؛ لِأَنَّهُ مَالٌ حَرْبِيٌّ أُخِذَ قَهْرًا فَكَانَ غَنِيمَةً فَيُخَمَّسُ بِالنَّصِّ، وَنَحْنُ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ نَمْنَعُ أَنَّهُ يُسَمَّى غَنِيمَةً، بَلْ الْغَنِيمَةُ مَا أُخِذَ قَهْرًا وَغَلَبَةً لَا اخْتِلَاسًا وَسَرِقَةً، إذْ الْمُتَلَصِّصُ إنَّمَا يَأْخُذُ بِحِيلَةٍ فَكَانَ هَذَا اكْتِسَابًا مُبَاحًا مِنْ الْمُبَاحَاتِ كَالِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ، وَمَحَلُّ الْخُمُسِ مَا هُوَ الْغَنِيمَةُ بِالنَّصِّ، بِخِلَافِ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ مِنْ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ إذَا دَخَلَا بِإِذْنِ الْإِمَامِ لِأَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَنْصُرَهُمْ حَيْثُ أَذِنَ لَهُمْ، كَمَا عَلَيْهِ أَنْ يَنْصُرَ الْجَمَاعَةَ الَّذِينَ لَهُمْ مَنَعَةٌ كَالْأَرْبَعَةِ أَوْ الْعَشَرَةِ إذَا دَخَلُوا بِغَيْرِ إذْنِهِ تَحَامِيًا عَنْ تَوْهِينِ الْمُسْلِمِينَ وَالدِّينِ فَلَمْ يَكُونُوا مَعَ نُصْرَةِ الْإِمَامِ مُتَلَصِّصِينَ، وَكَانَ الْمَأْخُوذُ قَهْرًا غَنِيمَةً، وَخَذَلَهُ خِذْلَانًا إذَا تَرَكَ نَصْرَهُ وَأَسْلَمَهُ.